أين يقع جامع آيا صوفيا وما هي قصته الكاملة
تحفة معمارية تعاقبت عليها الحضارات، من كاتدرائية بيزنطية إلى مسجد عثماني ثم متحف وأخيرًا مسجد، فكل زاوية تروي قصة مُبْهِرَة، تعرف معنا على جامع آيا صوفيا.
ما هي قصة آيا صوفيا؟
قبل التطرق للحديث عن القصة، دعنا نتعرف أولًا على القديسة صوفيا، التي نشأت في أنطاكية بين عائلات النبلاء، وكانت ديانة آيا صوفيا هي المسيحية، كما أنجبت ثلاث بنات: (أغابي) بمعنى المحبة و (بيستس) أي الأيمان، و(هلبيس) أي الرجاء، فبعد أن كبرن، ذهبت بهن إلى روما لتعليمهن العبادة، وعندما علم الوالي الروماني (كلوديوس) بتحولها من الوثنية إلى المسيحية، خلال حكم الإمبراطور (هادريان)، أمر بإحضارها ومحاكمتها.
في قلب إسطنبول، يبرز الجامع كأحد عجائب العالم، فهو أكثر من مجرد مبنى؛ إنه كتاب تاريخ مفتوح، يروي قصة عصور مضت، حيث بدأ ككاتدرائية بيزنطية في عام 537م، كما يعد أعجوبة هندسية بمعماره الفريد وقبته الهائلة، فعند الفتح العثماني لإسطنبول 1453، تحوّل إلى مسجد بأمر السلطان محمد الفاتح، وأُضِيفَت إليه المآذن والزخارف الإسلامية، ولم يكن التحول إلى مسجد نهاية الرحلة؛ ففي عام 1935، تم تحويله إلى متحف بأمر من مؤسس الجمهورية التركية (مصطفى كمال أتاتورك)، لِيُصْبِحَ رمزًا للتسامح الديني والتنوع الثقافي، أما خلال عام 2020، عاد ليكون مسجدًا من جديد، محافظًا على هويته الفريدة كمكان يجمع بين الفن البيزنطي والزخرفة الإسلامية، مما يجعل هذا المكان ليس فقط مجرد جولة سياحية، بل رحلة عبر الزمن، تستحضر فيها عظمة الإمبراطوريات وتمازج الثقافات في مكان واحد.
ما هي أحداث مذبحة آيا صوفيا التي جرت بعد الفتح العثماني؟
لطالما كانت كنيسة آيا صوفيا العريقة، التي خدمَت المسيح لأكثر من ألف عام، ملاذًا للعديد من الأرواح المُتْعَبَة، وسمعت جدرانها صرخات المساكين والمرضى، ففي يومٍ أسود من عام 1453، وصلت طلائع جيش السلطان (محمد الثاني) إلى المدينة، عازمًا على احتلالها بعد أن أخفقت محاولات أسلافه عبر القرون، بما في ذلك الخليفة الأموي (معاوية) في القرن السابع، ووعد السلطان جنوده بأن المدينة ستكون ملكهم لثلاثة أيام، وأن النساء في الداخل سيكونن هدية لهم، لتشجيعهم على القتال، وحاصرت القوات المدينة المنهكة لمدة 52 يومًا، ثم اجتاحت جدرانها في 29 مايو، ومن هنا بدأت المذبحة الكبرى، حيث أُعْدِمَ عشرات الآلاف من الرجال أمام عائلاتهم، كما شهدت الفتيات الصغيرات أبشع أنواع الاغتصاب والتعذيب، وفي خضم الفوضى، اقتحم الجنود الكنيسة التي كانت ملاذًا لأكثر من خمسة آلاف مصلٍ.
جُمِعَ البطريرك وكبار الأساقفة داخل كنيسة آيا صوفيا، وقُطِعَت رؤوسهم، كذلك تم قتل الرجال خارج الكنيسة، بينما نُقل الأطفال الصغار كعبيد، أما النساء والفتيات تعرضن لأسوأ أنواع الاغتصاب، ومن ثم تم بيعهن في الأسواق البعيدة، كما كانت تدوي صرخات العويل عبر قناة البوسفور، وأُخرجت ذخائر القديسين وأحرقت مع الأيقونات النادرة، تم تكسير أبواب الكنيسة البرونزية ونهب الذهب، حتى وصل السلطان أخيرًا إلى الكنيسة، التي طالما تطلع إليها مع والده، وأعلن نيته بتحويلها إلى مسجد، كما اعتلى قبة الكنيسة ليقوم بإزالة الصليب وسط تكبيرات الجنود، ويعلن التحول الرسمي، ثم غُسِلَت الدماء عن رخام الأرضية الأبيض، وبدأت عملية طمس الفسيفساء، ولكن الأيقونات المسيحية ظلّت تظهر رغم محاولات الطمس، وفي 1 يونيو، دخل السلطان مع قادته إلى الكنيسة وصلى فيها صلاة الجمعة، مُعلِنًا نهاية الحقبة المجيدة لهذه الكنيسة.
أين يقع جامع آيا صوفيا؟
في قلب إسطنبول الأوروبية، وبمنطقة السلطان أحمد، يقع جامع آيا صوفيا كجوهرة تاريخية تتلألأ بالقرب من سوق (بيازيد) الشهير وحديقة (غولهانة) الساحرة، حيث يطل هذا الصرح العظيم على ميناء القرن الذهبي ومدخل البوسفور، ويجاوره قصر (طوبقابي)، بينما يبعد إلى الجنوب جامع السلطان أحمد المعروف بـ”الجامع الأزرق”، ومسجد سليمانية ومسجد (شاه زاده محمد)، كما يتربع على التل الأول من التلال السبعة التي تُشَكِّل إسطنبول القديمة، والمعروفة بـ”التيجان السبعة”، فكل تل من هذه التلال يزخر بمعلم تاريخي، ليظل الجامع خير شاهد على التاريخ العريق لهذه المدينة الرائعة.
لماذا سُمِّيَ جامع آيا صوفيا بهذا الاسم؟
في فجر إنشائه، كان يُعْرَفُ باسم (ميغالي إغليسيا)، والتي تُعْنِي “الكنيسة الكبيرة”، كإشارة إلى عظمته مُقارنة بالكنائس الأخرى في المدينة، وقد أُطلق عليه أيضًا اسم (صوفا) في حوالي عام 400 م، ومع مطلع القرن الخامس الميلادي، تحول اسمه إلى (هاغيا صوفيا)، وهو اسم يوناني يعبر عن “الحكمة المقدسة” أو “كاتدرائية حكمة الله”، أما بمنتصف القرن الرابع عشر، بعد أن تحول إلى مسجد، أصبح يُعرف بـ”جامع ايا صوفيا”، وسمّاه العثمانيون بـ”آيا صوفيا كبير جامع شريف”، دلالةً على عظمته وشرفه كأحد أبرز المعالم الإسلامية.
من الذي بَنَى جامع آيا صوفيا؟
في عهد الإمبراطور (ثيودوسيوس) الثاني، الذي خلف (أركاديوس)، بدأت أعمال إعادة بناء آيا صوفيا، والتي اكتملت في عام 415، لكن في عام 532، خلال “تمرد نيكا” في عهد (جستنيان) الأول، تعرضت الكنيسة للحرق والتدمير، وبعد انتهاء التمرد، أمر الإمبراطور (جستنيان) الأول بإعادة بناء آيا صوفيا، واُسْتُؤْنِفَ العمل بعد 39 يومًا من التمرد، ليكتمل البناء في عام 537، حيث اشتركت حوالي 100 مجموعة من المهندسين والعمال، بقيادة اثنين من كبار المهندسين المعماريين، في إعادة تشييد الصرح العظيم، كذلك استخدم الطوب بدلاً من الخشب لتحمل الظروف الجوية والحرائق، واستُقدِم أجود أنواع الرخام من جميع أنحاء الإمبراطورية، أما نمط البناء فكان فارسيًا، مع استخدام “أرجل الفيل” المصنوعة من الحجر الجيري والطوب الخاص من جزيرة (رودس) لتدعيم القبة الكبيرة، فالزخارف الداخلية كانت رائعة مثل القبة نفسها، واحتُفل بافتتاح الكنيسة في 27 ديسمبر 537، بحضور الإمبراطور (جستنيان) الأول، وعلى الرغم من عظمة البناء، لم يتمكن البناء من الحفاظ على شكله الأصلي بسبب الترميم المستمر الذي شهده على مدى العصور، جراء الكوارث الطبيعية والغزوات والحروب التي مرت بالمنطقة.
التصميم المعماري لجامع آيا صوفيا
أما عن آيا صوفيا من الداخل، فيبلغ طول المبنى الرئيسي للجامع 82 مترًا، في حين يصل ارتفاع قبته إلى 55.6 مترًا وقطرها إلى 31.7 مترًا، ويحتوي على 40 نافذة، كما يرتكز البناء على أربعة أعمدة ضخمة من الرخام الأخضر، بارتفاع 24.3 مترًا لكل منها، وفي نهاية القرن العشرين، اُكْتُشِفَت أربع دعامات خفية تدعم القبة العليا، حيث يدخل الزوار إلى المبنى عبر تسعة أبواب، ويُبنى على طراز البازيليكا الروماني، الذي يَبْرُزُ في تصاميم معمارية قديمة شبيهة بتلك الموجودة في روما وفي قبة مدينة الفاتيكان، كما يتخذ المبنى شكلًا مستطيلًا من الداخل والخارج، ويتقدمه فناء واسع مُحَاطٌ برواق طويل يؤدي إلى صالات جانبية، التي تُفضي إلى الصالة الرئيسية، حيث ترتكز القبة الضخمة على البناء، كما تستند من الشرق والغرب على أنصاف قباب أصغر حجمًا، وبعد التحويل إلى الجامع، تمت تغطية العديد من اللوحات الأصلية بطبقات من الجبس، ورُسمت فوقها زخارف بالخط العربي، وبمرور الوقت، بدأت هذه الطبقات تتساقط، مما كشف عن الرسوم القديمة التي أصبحت الآن تتداخل مع الزخارف الحديثة، مما يخلق لوحة تاريخية متشابكة من الألوان والتفاصيل.
ما هي الأنشطة السياحية بمنطقة آيا صوفيا؟
تعد زيارة المسجد تجربة سياحية مُذْهِلَة، فعند دخولك إلى هذا الصرح التاريخي، ستنغمس في روعة الزخارف وتعجب بعظمة البناء، حيث يمكنك تأمل تفاصيل القبة العظيمة وجمال الفسيفساء، واستمتع بالتقاط الصور التذكارية التي تخلد لحظاتك داخل المسجد وخارجه، وبعد التأمل في هذه التحف المعمارية، يمكنك الاسترخاء في الحديقة المجاورة التي تطل على المسجد، أو استكشاف مقبرة آيا صوفيا التي تضم قبور خمسة من السلاطين العثمانيين، حيث تتجلى الأناقة والهدوء، وبينما تجول في المنطقة، ستجد نفسك محاطًا بمجموعة من المطاعم والمقاهي، التي توفر لك أجواء من السكينة والطمأنينة، مما يجعل زيارتك تجربة متكاملة تُخَلِّدُ في الذاكرة.
في الختام يمكننا القول أنه في كل زاوية من زوايا آيا صوفيا، يظل التاريخ حيًا، فهو ليس مجرد معلم معماري، بل هو سجل حي لعدة قرون من الأديان والتقلبات التاريخية، يظل شاهداً على عظمة الماضي وتنوع الحاضر.