قصة الشيخ العز بن عبد السلام ومعلومات شاملة عنه
من دمشق إلى القاهرة، رحلة تاريخية مُوثقة للشيخ العز بن عبد السلام قاضي القضاة وسلطان العلماء وشيخ الإسلام، فما هو نتاج رحلته؟
من هو العز بن عبد السلام؟
في قلب دمشق النابضة بالحياة في القرن السادس الهجري وفي ظل حكم الناصر صلاح الدين الأيوبي وُلد الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم السلمي في عام 577 هـجرياً، كانت دمشق حينها منارة للعلم والجهاد حيث كانت تجمع العلماء والمجاهدون في أجواء من النقاء الروحي والعلمي، نشأ العز بن عبد السلام في هذا الجو الثرى بالعلم والثقافة ورغم أنه تأخر في بدء طلب العلم مقارنةً بأقرانه إلا أنه أطلق جناحيه طلباً للعلم حتى بلغ عنان السماء، توطدت علاقاته مع علماء دمشق البارزين من خلال الجلوس إليهم وتبادل وجهات النظر مثل: فخر الدين بن عساكر وسيف الدين الآمدي، وكرَس وقته لدراسة الفقه الشافعي حتى أصبح من أبرز علماء الشافعية في المدينة.
لم يكن الشيخ عز الدين مجرد عالم فذ بل كان نموذجاً عبقرياً يجمع بين العلم والعمل عُرف بتقواه وورعه واهتم بمكافحة البدع والمحرمات حتى مصدر الشُبهات منها حيث أنه كان يلتزم بأعلى درجات الحذر والتمسك بالشريعة، وكان يُعرف بالصدق والشجاعة في القول بالحق مهما كانت العواقب لهذا لم تخلُ مسيرته من المحن فقد واجه الكثير من المتاعب بسبب مواقفه الجريئة التي كانت دائماً لصالح الدين والقيم الإسلامية.
عُرف الشيخ عز الدين بقدرته على التفاعل مع الأحداث المعاصرة فقد قام بنُصح الحكام وتوجيههم ومواجهتهم الند بالند حتى إذا لزم الأمر، نتيجة لتلك الصراعات تعرض للسجن بسبب مواقفه الصلبة، ولكن هذه المحن لم تردعه عن الاستمرار في دعوته، فبعدما نُفي إلى مصر أصبح قاضي القضاة هناك وواصل عمله في تدريس الفقه والإفتاء بالإضافة إلى دوره البارز في تحفيز الناس على مواجهة التتار والصليبيين.
لمحات من حياته
كان العز بن عبد السلام المُلقب بسلطان العلماء كما أطلق عليه تلميذه الأول (ابن دقيق العيد) رجلاً عبقرياً قلما يحظى به العالم، لم يقتصر دوره على الفقه والاجتهاد فقط بل اتسعت آفاق علمه لتشمل التفسير واللغة والأصول والحديث وقد برع في هذه العلوم بفضل تكوينه العلمي الفريد، حيث أنه منذ نعومة أظفاره تربى على أيدي أبرز العلماء فقرأ الفقه على الإمام (فخر الدين بن عساكر) ونهل من علم الأصول على يد العالم الأصولي الكبير (سيف الدين الآمدي) كما أخذ الحديث من كبار المحدثين مثل (أبي محمد القاسم بن الحافظ علي بن عساكر)، ولم يكن يكتفي بالعلم داخل أسوار دمشق بل رحل إلى بغداد حيث تتلمذ على أيدي كبار علمائها لتتسع مداركه وتصبح رؤيته أعمق وأكثر شمولية.
كان من الواضح لكل من اقترب من الشيخ العز أن علمه لم يكن مقتصراً على المذهب الشافعي بل بلغ درجة الاجتهاد التي نادراً ما يصل إليها أحد في عصره، ومن أبلغ الشِهادات المؤثرة في حقه قول الإمام ابن الحاجب (أنه أفقه من الغزالي) وهو قول قلما يُطلق على أحد في ذلك الوقت، وكانت علوم اللغة والبيان التي أتقنها حاضرةً بقوة في مؤلفاته خاصة في تفسيره للقرآن الكريم حيث كان يستشهد كثيراً بأشعار العرب كما كان يفعل الصحابي عبد الله بن عباس، مقتدياً بأسلوبه في ربط معاني القرآن بالشعر العربي لكونه (ديوان العرب) كما كان يُقال.
شجاعة غير معهودة
في إحدى اللحظات الفاصلة في تاريخ دمشق برز الشيخ عز الدين بن عبد السلام كصوت الحق الذي لا يخشى في الله لومة لائم وبسبب جرأته وشجاعته كان له عدة مواقف لا تُنسى ومنها:
موقفه مع الصالح إسماعيل
- الشيخ عز الدين أنكر على حاكم دمشق الصالح إسماعيل تحالفه مع الصليبيين وتنازله عن بعض المواقع.
- أفتى بتحريم بيع السلاح للصليبيين وأعلن ذلك على المنبر.
- تعرض للعزل والاعتقال بعد رفضه الخضوع للحاكم، وأصر على موقفه بشجاعة رغم التهديدات.
بيع أمراء المماليك
- أفتى العز بأن تصرفات أمراء المماليك غير شرعية لأنهم ما زالوا عبيداً.
- اقترح بيعهم وإعادة ثمنهم لبيت مال المسلمين قبل عتقهم.
- أثار ذلك غضب الأمراء، ولكن الشيخ تمسك بموقفه رغم التهديد بالقتل.
قصته مع نجم الدين أيوب
- وقف العز أمام السلطان نجم الدين أيوب في يوم عيد بعد أن رأى الأمراء تُقبل الأرض بين يديه.
- أنكر على السلطان سماحه ببيع الخمور، فأمر السلطان فوراً بإغلاق الحانات.
- عندما سُئل الشيخ عن عدم خوفه من السلطان، أجاب بأن هيبة الله كانت أعظم في قلبه من أي سلطان.
معركة المنصورة
- بعد قدومه إلى مصر حرَض الشيخ العز الناس على الجهاد ضد الصليبيين.
- شارك بفعالية في الدعوة إلى القتال أثناء معركة المنصورة، حيث تم أسر لويس التاسع وقادة الحملة.
- كان له دور بارز في تحفيز الشعب على المقاومة والمشاركة في الحرب الشعبية.
موقعة عين جالوت
- اتخذ العز بن عبد السلام جانب المماليك في مواجهة التتار، وأفتى بجواز فرض الضرائب بشرط أخذ أموال الأمراء أولاً.
- لعب دوراً كبيراً في تحفيز الناس والجيش على الجهاد والتضحية.
- استمرت كلماته في إشعال الحماسة حتى نصر المسلمين في معركة عين جالوت تحت راية (الله أكبر).
وفاة العز بن عبد السلام
في جُمادى الأولى من سنة 660 هجرياً غابت شمس العز بن عبد السلام عن الدنيا بعد حياة امتدت لثلاث وثمانين عاماً مليئة بالعلم والجهاد ورغم اتفاق المؤرخين وعلماء التراجم على هذا التاريخ إلا أن يوم وفاته أثار بعض الاختلافات بين الباحثين في زمانه، فقد ذكر ابن السبكي نقلاً عن عبد اللطيف بن العز أن الشيخ توفي في التاسع من جمادى الأولى، بينما قال ابن السبكي نفسه في موضع آخر إن الوفاة حدثت في العاشر من نفس الشهر، أما أبو شامة المقدسي فقد زاد في التشكيك قائلاً إن الوفاة قد تكون في العاشر أو الحادي عشر.
وبينما كان الشيخ العز في أيامه الأخيرة جاءه رجل يروي له رؤيا رآها فيه حيث كان العز يُنشد فيها بيتاً من شعر (كثير عزة) يقول فيه: (وكنتُ كذي رِجْلين: رِجْلٌ صحيحةٌ ورِجْلٌ رمى فيها الزّمانُ فشُلَّتِ)، وفي يوم الأحد الموافق العاشر من جمادى الأولى اجتمع الناس لتشييع جثمان شيخ الإسلام إلى مثواه الأخير عند جبل المقطم بالقاهرة، وبالنهاية كانت جنازته شاهدة على الحب الكبير الذي حمله الناس له.
كتب ومؤلفات العز بن عبد السلام
برع الشيخ عز الدين في الكثير من المجالات والعلوم ولم يترك مجالاً دون ترك أثره باقياً من خلال تدوين الكتب والمؤلفات، تعد هذه المؤلفات جزءاً من التراث العلمي الكبير الذي ساهم في مختلف فروع العلوم الإسلامية، ومنها:
علم التفسير
- تفسير القرآن الكريم: كتاب شامل في تفسير آيات القرآن الكريم، اعتمد فيه العز بن عبد السلام على تحليل الألفاظ والمعاني واستشهاداته بشعر العرب واللغة مما يدل على إتقانه لعلوم اللغة.
- فوائد في مشكل القرآن: ركز فيه على متشابهات القرآن الكريم وتوضيح معانيها، مع توضيح الفروق بين النصوص التي قد تبدو متشابهة للوهلة الأولى.
علم الحديث
- مختصر صحيح مسلم: اختصر فيه كتاب صحيح مسلم مع المحافظة على روح الكتاب الأصلي، لتسهيل الاطلاع على أهم الأحاديث الصحيحة.
- الفتاوى الموصلية والمصرية: جمع فيها الفتاوى المستندة إلى الأحاديث النبوية الشريفة مع تحليلها وتوضيح الأحكام الشرعية المرتبطة بها.
علم الفقه
- قواعد الأحكام في مصالح الأنام: يعتبر من أهم الكتب الفقهية للشيخ العز حيث تناول فيه القواعد الشرعية الكبرى التي تقوم على أساس تحقيق مصالح الناس، وبيَن من خلاله آلاف المسائل الفقهية.
- شجرة المعارف والأحوال: يعرض فيه فقه العقائد والأعمال والأخلاق، ويركز على تربية النفوس وتهذيبها وفقاً للتعاليم الشرعية.
علم الأصول
- القواعد الكبرى: من أعظم مؤلفاته في أصول الفقه، حيث يركز على قواعد الفقه التي تبنى عليها الأحكام الشرعية ويوضح من خلالها كيفية استخلاص الأحكام من النصوص الشرعية.
- غاية السول في تفضيل الرسول: كتاب يوضح فيه العز بعض القواعد الأصولية المرتبطة بالاجتهاد في الأحكام، ويستخدم أمثلة من سيرة النبي محمد لتوضيحها.
علم النحو والبلاغة
- النكت والعيون: كتاب في البلاغة يركز على دراسة الأساليب اللغوية والبلاغية في القرآن الكريم، ويشرح جوانب الإعجاز البلاغي فيه.
- الغاية في اختصار النهاية: مختصر لكتاب النحو والبلاغة يهدف إلى توضيح قواعد النحو بطريقة مبسطة.
علم الكلام
- الدلائل المتعلقة: يناقش قضايا الإيمان والكلام ويدافع عن العقيدة السنية بأسلوب عقلاني ودقيق، مع ردود على أصحاب المذاهب المخالفة.
- الرد على الجهمية: رسالة دفاعية حول مسائل التوحيد والإيمان، حيث رد فيها على الجهمية وغيرهم من الفرق الكلامية.
علم السيرة والتصوف وفضائل الأعمال
- بداية السول في تفضيل الرسول: سيرة نبوية تتناول خصائص النبي محمد وفضائله بأسلوب يعبر عن حب المؤلف للنبي ويعتمد على الروايات الصحيحة.
- فوائد البلوى والمحن: كتاب يُظهر الجانب الصوفي للعز بن عبد السلام حيث يستعرض فيه كيفية التعامل مع المِحن والابتلاءات، مستنداً إلى آيات وأحاديث تُعطي الصبر والتوكل.
كان الشيخ العز بن عبد السلام لا يُقدر بثمن في فترة عُرفت بالاضطرابات والصراعات، فقد عزم على نشر العلم ونصرة الحق إلى أن وافته المَنية في القاهرة تاركًا وراءه إرثاً علمياً عظيماً ومواقف تاريخية شاهدة على إخلاصه وعزيمته.