حين كاد الحب يزهر من جديد – نبضٌ جديد في قلبٍ منهك

حين كاد الحب يزهر من جديد، جاء القدر ليقتلع جذوره قبل أن تترسّخ، وكأن الأيام تأبى أن تمنحه فرصةً أخرى.

حين كاد الحب يزهر من جديد

لم يكن ذاك الشاب سوى ظلٍ باهتٍ لما كان عليه، يسير بين الناس لكنه لا ينتمي إليهم، يعيش بين جدران الذكرى كمن حُكم عليه بالسجن المؤبد داخل قلبه، فقد اعتاد الوحدة، اعتاد أن يكون شاهداً صامتاً على أفراح الآخرين، غير معنيٍّ بالمشاعر، كأن الحب لم يعد له مكانٌ في حياته، لكنه لم يكن يدرك أن القدر يخبئ له لقاءً مختلفاً، لقاءً يحمل في طياته وهجاً كاد يعيد إليه ما ظن أنه فقده للأبد.

ظهرت فتاةٌ أخرى في حياته، لم تكن تشبه تلك التي تركت جرحاً غائراً في روحه، لكنها حملت في عينيها شيئاً يشبه الأمل، كانت كنسمةٍ باردةٍ في صيفٍ حارق، تشبه ذلك الضوء الخافت الذي يتسلل إلى كهفٍ مظلم ليبعث الحياة في جدرانه، لم يكن يبحث عنها، ولم يكن مستعداً لأن يمنح قلبه فرصةً جديدة، لكنه وجد نفسه ينجذب إليها، يتحدث معها بلا قيود، كأنها كانت تنتظره منذ زمن.

بدأ يشعر أن الحياة قد تكون كريمةً معه أخيراً، وأن الحب قد يمنحه فرصة أخرى، وأن روحه التي تآكلت من الخذلان قد تجد أخيراً من يرممها، كانت الأيام تمر وهو ينتظر لقاءها، يبتسم لرسائلها، يتأمل ملامحها وكأنها خيطٌ رفيعٌ يربطه بالحياة من جديد، كاد قلبه ينبض بالحب مرة أخرى، كاد يستعيد ذاك الشغف الذي ظن أنه انتهى… لكنه لم يكن يعلم أن القدر كان على وشك أن يسلبه ذلك الشعور قبل أن يكتمل.

رحيلٌ مفاجئ ونسيانٌ قاسٍ

كما جاءت فجأة اختفت لكنها هذه المرة لم تذهب بلا وداع، بل تركت وراءها وعداً بالكذب، قالت إنها ستحبه دائماً، وإنها ستنتظره مهما باعدت بينهما المسافات، أقسمت أن الظروف لن تغيّرها، وأن قلبها سيظل مأوى لحبه مهما تبدلت الأيام، صدّقها كما يصدق التائهُ وعودَ الطريق، واطمأن كما يطمئن العصفورُ لظلّ الشجرة، لكنّه لم يكن يدري أن بعض القلوب تتقن التلاعب بالأمل، وأن بعض العهود ليست سوى كلمات تُقال لحظة ضعفٍ ثم تُنكر عند أول اختبار.

مرّت الأيام وكانا لا يزالان يتحدثان، لكنه بدأ يلحظ تبدلها شيئاً فشيئاً، لم تعد تحادثه كما كانت، صار صوتها باهتاً وكلماتها قليلة، ولقاءاتهما النادرة تملؤها المسافات الخفية، كأن روحها لم تعد حاضرة، حاول أن يطمئنها، أن يسألها عن حالها، لكنها بدأت تهرب، تهرب بلا سبب، تهرب بلا مبرر، كانت تبتعد بصمت، كأنها لم تعد تجد فيه ما كانت تبحث عنه، أو ربما لم تكن تحبه أصلاً، بل كانت تستند عليه حتى تستعيد نفسها، حتى يقودها القدر إلى طريقٍ آخر.

لم يكن يعلم إن كان الرحيل هو من غيّرها، أم أن حبها لم يكن يوماً حقيقياً، أم أن الحياة قد قدّمت لها ما هو أكثر إغراءً مما يستطيع أن يمنحها، لكن ما كان مؤلماً لم يكن مجرد انسحابها، بل الطريقة التي اختارتها لتخرج من حياته.

لم تواجهه لم تودّعه كما وعدت، بل انسحبت في الظلّ حتى تلاشت، ثم أغلقت جميع الأبواب خلفها، حجبت صوته، قطعت الطريق بينه وبينها، حظرته من كل منصات التواصل كأنها لم تعرفه يوماً، كأنها لم تلتقِ به، كأنها لم تعِدْهُ بشيء، كأنّها لم تقسم أن حبها سيبقى رغم كل شيء.

لم يكن الغياب وحده ما أوجعه بل النسيان، أن يشعر بأنه لم يكن أكثر من محطةٍ عابرة، لحظة استراحةٍ على طريقٍ لم يكن مقصده، أنه لم يكن إلا كتفاً تستند إليه لا قلباً تُحبّه، كان يعلم أن الحياة قد تأخذ منا أشخاصاً وتجبرنا على النسيان، لكنه لم يكن يتوقع أن يكون أحد أولئك الذين يُمحون بسهولة، يُحذفون كرسالةٍ غير مرغوب بها، يُلغون من الذاكرة كأنهم لم يكونوا يومًا جزءً من الحكاية.

الحياةُ لا تنتظر أحداً

لم يكن في قلبه غضب لكنه شعر بمرارةٍ لا توصف، كان يعلم أن القدر قد يكون قاسياً، لكنه لم يكن مستعداً لهذا النوع من الخذلان للمرة الثانية كاد يخرج من ظلامه، كاد يجد لنفسه طريقاً آخر، لكنها كانت معه تهدم ما بدأ ببنائه، تجرّه بلطفٍ نحو النهاية دون أن تصرّح بذلك، تتركه معلقاً بين الوعد والخداع، بين الأمل واليأس، كان يشعر بها تبتعد، لكنه ظلّ متمسكاً بما تبقى، متجاهلاً إشارات الرحيل التي كانت تلمّح بها دون أن تقولها صراحة.

وحين انهار الطريق أمامه، لم يكن ذلك مفاجئاً، بل كان سقوطاً مؤجلاً، لحظةً كان يخشى وقوعها لكنه لم يجرؤ على مواجهتها، رأى الخذلان في صمتها، في هروبها، في الأبواب التي أوصدتها أمامه بلا سبب، فأدرك أنه كان يعيش وهماً، وأنه لم يكن سوى محطةٍ مؤقتة في رحلتها، تماماً كما حدث من قبل.

أدار الشاب ظهره للذكرى، ومضى… فقد تعلّم الدرس القاسي: الحياة لا تنتظر أحداً، فلماذا ينتظر هو؟ لم يعد ينظر خلفه، لم يعد يفتش في الظلال عن أشباح الوعود المنقوضة، فقد فهم أخيراً أن القلوب تأتي لتأخذ، لا لتعطي، وأن الحب الصادق لا يحتاج إلى مبرراتٍ للبقاء.

لم يكن الألم وحده ما غيّره، بل الخذلان المتكرر الذي جعله يفقد إيمانه بالحب وبالناس، فصار يرى العلاقات مجرد وعود مؤقتة ومشاعر زائلة، ولم يعد ينتظر من أحدٍ بقاءً أو وفاءً، فالحياة تمضي، ولا تنتظر من يتوقف عند محطة خذلان.

هل كان المحتوى مفيداً؟

نعم
لا
شكراً لملاحظاتك.

حسيب أورفه لي

مؤسس ومدير المحتوى النصي والمرئي في موقع برو عرب وخبير في مجال الويب وساهمت في تطوير وتنمية العديد من المواقع الإلكترونية وأعمل بجد لتقديم محتوى ذو جودة عالية ومعلومات قيمة للقارئ العربي.
زر الذهاب إلى الأعلى