سامحينا يا غزة – نحن الخاذلون لا هم المهزومون
سامحينا يا غزة، لأننا لم نكن ظهركِ، بل خنجرَكِ، ولم نكن سيفكِ، بل غِمدكِ الصدئ، تركناكِ وحدكِ في الميدان، وهرعنا نحن إلى الشاشات ننتظر نهاية الحلقة.
سامحينا يا غزة
سامحينا يا غزّة، فما خُذِلتِ إلا بعد أن خذلنا أنفسنا، وما استُبيح دمكِ إلا حين باركنا نحنُ المذابح بالصمت، وباركنا المجازر بالتغاضي، وارتضينا الهوان كما يرتضي الذليل سلسلته التي ألفها، والقيود التي التصقت بالمعصم حتى صارت كأنّها من جلده.
نحن الخاذلون، لا أنتِ المهزومة نحن من سقط في الوحل، لا من ثبتت في الحصار، أنتِ واقفة كالنخل لا تنحني، ونحن رقابنا منحنية بلا سيف ولا جَلّاد، أين كنّا حين كان أطفالكِ يُقنَصون؟ أين جيوشنا، دباباتنا، صواريخنا التي لا تتجه إلّا للسماء في العروض العسكرية؟
غزة تصرخ وحدها… وصمتنا أبلغ من الرصاص ما بالنا نكتفي بالدعاء عند كل مجزرة؟ ما بالنا ننتظر العزاء بعد كل حمّام دم؟ أما آن لهذا القلب أن ينبض؟ أما آن للضمير أن يصحو؟
اثنتان وعشرون دولة عربية لم تقوَ على نصرة حيٍّ صغيرٍ محاصر اثنتان وعشرون دولة، من المحيط إلى الخليج، سكتت، نددت، استنكرت، ثم عادت إلى لهوها ولهاثها وراء الدنيا، لم يُفتَح معبر، لم تُسَيَّر دبابة، لم يُعلَن نفير، فهل بقي شيء من الكرامة لم يُدهَس؟
أما آن للأمة أن تخجل من نسائها قبل رجالها؟
أين أنتم يا حكام الخزي والعار؟ أين جيوشكم التي تجرها الدروع الثقيلة ولا تجرها العقيدة؟ أين أسلحتكم التي لم تُطلق إلا على الصدور العارية في الميادين؟ أما غزة، فليست من ميادينكم، إذ لا نفط فيها يُرعى، ولا عرش يُهدَّد.
أسلحتكم صدئت، ودباباتكم خردة، صفقات تُعقَد، ومليارات تُدفَع، وخرائط تُرسَم، ولكن لا شيء من ذلك يصبُّ في مجرى فلسطين.
لو جاءت طير الأبابيل، لرمتنا بالحجارة نحن، لا عدوّنا، فقد استحققنا السقوط أكثر منه نحن ننتظر المعجزة، بينما غزة تصنعها كل صباح باللحم الحيّ والحجارة، هل رأيتم شعباً يصنع مجده من دمه؟ ويمضي في تشييع أولاده ليقول للكون: نحن هنا، باقون، لا ننهزم؟
غزة تسأل: أين عمر بن الخطاب؟ أين صلاح الدين؟ أين من يقول: “والله لو أن بغلة عثرت في العراق، لسُئلت عنها؟” أما اليوم، فإن الأطفال يُقتَلون، والنساء تُغتصب، والبيوت تُهدم، ولا أحد يُسأل، ولا أحد يُحاسَب.
من “وامعتصماه” إلى “وا ذلّاه”، يا للخذلان! هل تذكُرون حين صاحت امرأة في عِزّ الأسر: “وامعتصماه”؟ فنهض جيشٌ بأكمله، لا لحمايتها فقط، بل لردّ الكرامة كلها، أما اليوم، فإن ألف امرأة تصرخ، وألف طفل ينادي، ولا يردّ الصوت إلا الصدى.
أين الرجال؟
غزة لا تحتاج إلى بياناتٍ مكرورة، ولا إلى مؤتمرات مملة تحتاج إلى رجال، أين الرجال؟ إن كانوا في السجون، فأخرجوهم، وإن كانوا في القبور، فافتحوا الطريق للحياة كي تُنجِب مثلهم، أما من هم على الكراسي، فهم لا يعرفون إلا كيف يُديرون رؤوسهم للكاميرا، لا لساحات النزال.
عن أي وحدة عربية تتحدثون؟ وأنتم عاجزون عن نصرة حيٍّ صغير؟ إن عجزت الأمة أن تنصر بيتاً يُهدم، فكيف تنصر دولة؟ وإن لم تُحرّكها الدماء، فلن تُحرّكها البيانات.
غزة لا تبكي… بل نحن من ننوح على شرفنا الضائع غزة تقاتل نحن نُحلِّل غزة تُكفِّن أبناءها وتقاتل نحن نُدفن كرامتنا في التصريحات ونعود للنوم.
يا غزّة، عذراً… فنحن أمة تُحبّ الحياة، ولكن بالذلّ، نُحب السلام، ولكن على شروط المحتل نطلب النجاة، ولو بالركوع وما عاد الركوع يُشعرنا بالخجل، بل صار طبيعتنا التي نُجيدها.
لقد خذلناكِ، فسامحينا… إن كان في القلب بقيّة حياة سامحينا لأننا لم نعد نستحق الدم الذي سال، ولا النداء الذي علا، ولا الحجارة التي انتفضت.
مليار ونصف مسلم ينتظرون معجزة… بينما أنتِ تصنعينها كل يوم وحدكِ، فهل كُتب علينا أن نكون ظلاً لا ذات؟ أن نكون عاراً لا شرف؟
سامحينا يا غزة… فلقد أصبحنا نستعجل القيامة، لا غيرةً على الدين، بل ضيقاً من هذا العجز المُهين.
نحن من خُنّا الأقصى… قبل أن يُدنّسه العدوّ، نحن من باع القضية… ثم جلس يتغنّى بالقصائد.