قصة رؤية الغائِبين في الأحلام، أشدُ أنواع اللقاءِ وجعاً

من عُمق الذاكرة، وجوف الألم المكنون، هنالك قصة، مغلفة بورقٍ أسود يَنعي شهيداً حيّاً في القلوب، قصة رؤية الغائبين في الأحلام، بدأت بحلم وانتهت بمأساة.

قصة رؤية الغائبين في الأحلام – عندما يتحول الحلم إلى واقع مرير

أتانا حسام زائراً، بعينيه الواسعتين تلك ورموشه التي تداعب حاجبيه… كان نحيلاً وشاحب الوجه… ضممته إلى صدري كما رأيته في حلمي… ولكني هذه المرة أنا من قمت بتكسير ضلوعه لشدة قبضتي عليه…. خشيت عليه من المغيب… خشيت على نفسي ومن نفسي!!

وبعد انقضاء مدة إجازته المعهودة… رحل…. رحل دون توديعي…. لم استيقظ… ولكني والله ما تمنيت أن يكون هذا جزاء توديعه لي في المنام….

حلب تشرين الأول 2014

كان هذا اليوم الأول الذي أدخل به الجامعة..وبعد حماسي واندفاعي وهرولتي للوصول إليها… انطفأت…. شيئاً ما أطفئ النور في عيني… وأوصد أبواب قلبي… لدرجةٍ شعرت بها بأن هنالك صخرة تتوسد صدري….

عدت… وقررت أن أتنفس هواءً نقياً عله يسحب من جوفي الألم….
وبينما أنا أتمشى في شوارع حلب…. أتاني الهاتف الذي قصم ظهر البعير….. الهاتف الذي غيّر وقلب موازين حياتنا جميعاً…. مكالمة بسيطة ومختصرة قيلت ببرودة دم…. ولكنها ألهبت في قلبي نيراناً لم تنطفئ إلى يومي هذا…. كانت فحوى المكالمة جملة واحدة…. جملة واحدة فقط…. حسام استشهد.

أتهزأ مني ياهذا؟
إنه وليد قلبي…. إنه العمر وما العمر بدونه يجري… ما الذي تقوله؟؟؟؟
ركضت كمن يبحث عن وجهة… وجهةٍ لم أدرك أين مآلها… ورغم أن شوارع حلب عريضة وكبيرة… رأيتها صغيرة… كمن حوّل هذه الدنيا في نظري إلى اللاشيء… إلى اللا وجود….
هرولت مسرعة… أخبروني أنه يتوجب علي توديعه…!!

أتقصدون بهذا أن ذاك القميص الأبيض هو الدنيا الآخرة التي سيرحل إليها؟
أتقصدون بأن احتضانه لي كان تهيئة للواقعة التي أقسمت آلا ترحل دون أن تقلّب موازين حياتنا؟
وصلت إلى المستشفى….. حبيبي في نعشه نائماً.

كلام الموتى ـ عندما يطوف الشهيد بروحه ونحكي بلسانه عمّا حدث

حلب 2014/10/20.
حسام….
كنا نتسامر أنا وأصدقائي ونحن مجتمعين في موقعنا… نمازح بعضنا البعض لعل تلك النكات تخفف من وطأة شوقنا إلى عوائلنا….
وفجأة صدح صوتٌ هز أركان قلبي…. صوتٌ جهوريٌّ…. أبكم ألسنتنا عن القول.
وبعدما استعدنا سمعنا، وقف صديقي متسائلاً إن كنا جميعاً بخير….
لنرد بالإيجاب عليه….
إلا أني ودون أدنى شعوراً مني… أمسكت صدري.. لأجد لطخة دماءٍ تعلوه…. فوجدت نفسي أهوي على الأرض وأنا أخبرهم بأني قد أصبت….

تلك الشظية أبت أن ترحل في السراب… لقد أحبت أن تعتكف صدري…. وتطفئ نور الحياة في عيني…. شظيةً صغيرة ساذجة لا ترهبك ولو بقيد أنملة.. استطاعت أن تخترق صدري وتتوسده مؤكدة أن الأرض أرادت أن تأخذ كل ما تبقى مني.

وفجأة…. وجدت نفسي مستيقظاً من جديد… ولكني أطير… كطائراً حراً في السماء…. اتنقل مثل الطيف بين المدن بسهولة، حتى أنني التي تعجبت لحالي هذا…. هل هذا حلماً؟
وهنا جدت نفسي أمام أبي وأمي… كان وجه أبي بلا معانٍ.. كنكرة غير معروفة ملامحها…. وأمي أمامه تسأله عن حالي….

صامتٌ هو وكأن جبالاً ترتمي على كتفيه… أعادت سؤالها.. ما حال حسام؟
هنا توقفت لبرهة… أحاول لمسها وراود نفسي سؤالاً… عن أي حسام تتحدثون؟ أنا هنا، بالله عليكم توقفوا….
كانت أمي جامدة… متحجرة… وكأنها تنتظر وقع كلمات تخشاها منذ زمن…. ليقطع والدي الصمت مخبراً إياها… حسام استشهد…. بصوته الباكي العميق…. أي شهادةٍ تلك؟ أنا هنا يا أمي….
وقعت أمي وعيناها مفتوحتان… يجاهد الجميع من حولها لأن يوقظها!.

أمي… حبيبتي أنا هنا، هم لا يصدقون، أنا هنا يا عيوني!
تجمد الدم في عروق أمي، وفجأة… عاد طيفي ليحوم إلى مكانٍ آخر…. إلى أن شعرت بلمسةٍ على وجنتي… ولكن دون أن أرى أحداً.

وحينها وجدت نفسي ماثلاً أمام عائلتي… وهم مجتمعين بجانب بعضهم البعض حول نعشٍ… نحيبهم أتعبني… صوت النحيب يعلو… وقلبي ينطفئ… وأصواتهم تهرش رأسي…. تنبش بين بواطن روحي… لمَ تبكون؟.

أبي…. أمي… إخوتي… ما الأمر؟
تمعنت لأحاول أن أفهم الأسباب… وكانت الغرابة التي جعلتني أهوي على ركبتي من هول المنظر.. هو رؤية اسمي يعلو التابوت….
هذا كذبٌ وافتراء… أنا أمامكم ألا ترونني؟.

رأيت أختي تهز النعش مطالبةً بفتحه… وأمي بجانبها تصرخ وتخبرها أن تتوقف خوفاً على حسام!!
عن من تتحدثون؟ أنا حسام، وأنا هنا…. ابصروني بالله عليكم.

وما كان أشد غرابةً.. هو أنه و مع كل هزة تهزها أختي للنعش.. كنت أشعر بصداعٍ رهيب يخترق باطن عقلي ويصيبني بالدوار، أبي بنحيبه يلحن ويرثيني باكياً…. جميعهم يبكون… وعندما فتح النعش… شعرت بالراحة… تخيل!!

لقد شعرت بالراحة!! وكان هذا ما بث الذعر في قلبي، لقد رأيت نفسي داخل النعش… نائماً كعادتي… ولكنني متصلبٌ كقطعة الجليد.

كانت دموعهم تنهمر على وجهي… وتلهب جراحي أكثر فأشعر بها تنساي على وجنتي… ولكني ماثلٌ هنا وجسدي هناك، فكيف هذا يا الله؟
هنا أيقنت… وصدقت تلك الحقيقة المرة التي أرفض تصديقها… وآمنت بأني أنا…. أنا الشهيد حسام محمود لولك.

حلب/آب 2024.
وإني أقسم بالله العظيم، أن نور الدنيا انطفئ من عيون عائلتي… حتى ترانا لا نطيق ما نحن عليه… حسام لم يكن أخاً فحسب…إنه الروح وصاحب الأنامل التي تدندن بأعذب الألحان على البزق.

إنه صاحب العينين الواسعتين والتي كانتا تشعُّ بريقاً متوهجاً مفعماً بالحياة… وها أنا أرثيك يا أخي بأن أروي قصة قامةٍ من قامات السنديان.. وكانت حكايته واحدة من آلاف الحكايات الأكثر إيلاماً.

وإن الله يمتحننا على قدر طاقتنا… وطاقتنا كانت في تماسك عائلتنا ووجودنا بجانب بعضنا البعض… لذا.. بعد رحيل أحدنا… فقدنا تلك الطاقة للأبد… فقدنا شغفنا… أحلامنا…. ونحن بالكاد ننجو… وما كان أكثر ألمٍ في وقعه على روحي.. هو أنني كنت أشكو حزني لأخي… فمن الذي سيسمعني الآن؟
لا تغلي مزيداً من الأعشاب يا أمي، فالبحة هذه المرة في القلب.

إن فراقه يصرع ذا اللبّ.. وإنه بالكاد يشعر… الهناء له، والعزاء لنا، حبيب القلب صاحب المبسم الجميل، أرثيك بكل الأوجاع في صدري… ومهما حاولت أن أرسمها حروفاً، تراها تجاهد التعبير، فلا تجد مأوىً تفرّغ من خلاله ذاك الثقل الذي يختلج الروح.

إلهي رضينا بقضائك وقدرك ولكن الموت والله ثقيلاً على الروح، فلا يعزينا شيئاً سوى رجائنا بأن تقبله شهيداً في جناتك…
ولو سألتموني عن حكايتي… لأخبرتكم أن تلك الحكاية هي أهمها.. لأنني بعدها ولله ماعدت أنا…

وما عادت حلب في ناظريَّ كما كانت… باتت أزقتها ضيقةً أكثر على قلبي… وأضواءها شاحبةٌ في عيني، وبتُّ أنا كمن سلبت منه هويته، ولذا اختتم قولي هذا، بأن أدعو الله أن يرحم أمواتنا ويلهم قلوب أحياؤنا بالصبر والسلوان وبالتمني الذي لا ينتهي بأن تعود سوريتي إلى عهدها السابق… بهية مشرقة تحتضن أولادها، ولا تقطع حبلها السريّ عنهم بل تلتمس لهم الأعذار لأنهم ولله ما قطعوا السبيل ولكنها ضاقت على الجميع.

“ضاقت أمانينا ترى، هل من أماني تشترى؟”.

تم نسخ الرابط

هل كان المحتوى مفيداً؟

نعم
لا
شكراً لملاحظاتك.

فريال محمود لولك

الكتابة هي السبيل للنجاة من عالمٍ يسوده الظلام، ننقل بها سيل المعلومات لتوسيع مدارك القارئ المعرفية، أنا فريال محمود لولك، من سوريا، خريجة كلية التربية اختصاص معلم صف، وكاتبة منذ نعومة أظفاري، من وحي المعاناة وجدت في الكتابة خلاصي، ورأيت بها نور الله الآمر بالعلم والمعرفة، فاقرأ باسم ربك الذي خلق. فإن القراءة هي الطهارة لعقلك من كل جهل.
زر الذهاب إلى الأعلى