قصة قلب وثِقَ فأُصيب – جرحٌ لا يندمل ودرسٌ لا يُنسى
كانَ الحبُ يوماً درباً مضيئاً في عيني شابٍ آمنَ بالثقةِ كما يؤمنُ المسافرُ بنجمةِ الصباح، لكنَّ ما بدا كصورةٍ بريئةٍ تحولَ إلى سيفٍ أدمى روحه، فصارتْ قصتهُ مرثيةً لكلِّ قلب وثِقَ فأُصيب.
قصة قلب وثِقَ فأُصيب
في أمدٍ مضى عاش شابٌ في ريعان شبابه، عيناه تتلألآن بنور الأمل، وقلبه يخفق بالحياة كشعلةٍ لا تهدأ، وفي يومٍ من الأيام بينما كان يمضي في دروب الزمن، لمح فتاةً تقف كأنها ظلٌ رقيق، شعرها يتراقص مع الهواء، وعيناها تحملان بريقاً يشبه ضوء النجوم في سماءٍ صافية، كانت كالملاك في عينيه، نعمةً أُهديت إليه، نوراً أضاء ظلمة أيامه، وروحاً طاهرةً حسبها ملاذاً من قسوة الحياة.
اقترب منها خطوةً فخطوة فوجدها كائناً هشاً يبحث عن سكينة، تحمل في صدرها جرحاً قديماً تركه حبيبٌ خائن، جلادٌ أدمى قلبها ثم مضى، فتح لها قلبه ومنحها ما لم يمنحه أحدٌ قبله، أعطاها حبه النقي كالماء الصافي، وثقته التي كانت كنزاً لا يُقدّر.
كانت فتاةً جيدة لم تكن يوماً سيئة بل كانت كائناً رقيقاً يحمل الخير في طياته، لكنها كانت أسيرة ماضيها، صارت له الملاذ من ألم الأيام فأمسك بيدها وأخرجها من ظلمة ذكرياتها، ووهبها الأمان كما يُهدي الفارس درعه لمن يحميه، كان يجلس معها تحت ضوء القمر، يحكي لها عن أحلامه، ويعدّها بأن تكون له الرفيقة والسكن، فكانت تبتسم ببراءةٍ حسبها مرآةً لروحها الصافية.
صورةٌ بريئةٌ وكسرٌ مؤلم
لكنها في أعماقها كانت تسترد عافيتها بحنانه، كمن يستند إلى عصا ليعبر طريقاً وعراً، كان يرى في عينيها الدفء، وفي صوتها لحناً يعيد إليه الحياة، لكنه لم يدرك أنها تستشفى به من جرحها القديم، وأن قلبها ما زال معلقاً بذاك الجلاد الذي أذاها، وما إن استعادت قوتها وشفى قلبها من ألمه حتى تغيرت ملامحها أمامه، كما تتحول الأيام في تشرين، حين تهب الريح فتكشف ما كان مستتراً.
لم تكن خداعةً بطباعها ولا شريرةً في نواياها لكنها كانت أسيرةً لعاطفةٍ قديمة لم تستطع الفكاك منها، تركته مكسوراً رغم طيبتها كما يكسر الريح غصناً يابساً، وسلبت منه أجمل سنوات عمره، تلك اللحظات التي عاشها لأجلها، تنفسها بحبها، وحلم بها في كل لحظة.
تحول ذاك الشاب الذي كان ينبض بالحياة إلى عجوزٍ في العشرينات، عيناه تحملان نظرة الخيبة، وقلبه مكلومٌ لم يعد يؤمن بالحب، ولا بأن القلوب، مهما كانت طيبة، قد تقاوم نداء الماضي.
وما كان ألماً نفسياً في روحه تحول إلى وجعٍ جسدي، كأن الحزن قد استقر في عظامه، وأثقل كاهله فصار يمشي منحنياً، وكأن يداً خفية تعتصر قلبه في كل نبضة.
وداعٌ بلا كلمات
وقف مذهولاً يراقبها وهي تبتعد، كأنه يرى حلماً يتبدد أمام عينيه، كان قد أعطاها كل شيء، قلبه، ثقته، أيامه، وحتى أحلامه، لكنها نظرت إليه نظرةً حزينة، ثم لوّحت له بيدها كمن تودع عابراً، ومضت تعانق ماضيها، تاركةً إياه وحيداً يصارع أمواج الخيبة دون كلمةٍ واحدة.
وتكالبت عليه الهموم في تلك السنوات القليلة، كأنها أعداء تحاصر روحاً منهكة، حتى أضحى جسداً يمشي بين الناس كشبحٍ، يتنفس بلا حياة، وجسده يئن تحت ثقل الأسىِ، رسم الحزن على روحه جرحاً عميقاً وندبةً لا يمحوها الزمن، ولا يداويها نسيان، وانتقل ذاك الجرح من قلبه إلى أطرافه، فبات يشعر به كوخزٍ لا يفارقه.
كان يرى في كل ابتسامةٍ ظلاً من الخداع، وفي كل وعدٍ كذبة، حتى صارت الدنيا في عينيه مرآةً تعكس سواد الخيانة، رغم أنه لم يلُمها يوماً، فكانت ملاكاً في عينيه، لكنها ملاكٌ لم يستطع التحليق بعيداً عن أغلال ماضيه.
وفي يومٍ أسود ساقته قدماه كالممسوس إلى حيث يقام عرسها فذهب ليحضر كمن يُلقي بنفسه في هاوية، وقف بعيداً يرى ضحكاتها تملأ الفضاء بجانب ذاك الجلاد الذي عادت إليه، فأحس بقلبه يتشظى كالزجاج، وكأن القدر جعل من عينيه مرآةً ترى سعادتها كخنجرٍ يمزق أحشاءه، فغدا شاهداً صامتاً على فرحٍ أعلن نهايته، يحمل في روحه جثة حبٍ مات تحت أنغام زفافها، ليظل عالقاً في ظلال تلك اللحظة، حيث تحولت ثقته إلى لعنةٍ، وحياته إلى قبرٍ يتنفس فيه بلا روح.
وفي الختام بقيتْ تلكَ القصةُ كشجرةٍ عتيقةٍ في صحراءِ الذكريات، تحملُ بينَ أغصانِها دروساً مريرةً عن الثقةِ والخذلان، وعن الحبِّ الذي قد يُصبحُ جرحاً لا يندمل، وقفَ الشابُ في عرسِها كمنْ يقرأُ فصلاً أخيراً من كتابِ الأسى، فتعلّمَ أن القلوبَ قد تضلّ طريقَها، وأن الأمانَ قد يتحولَ إلى سرابٍ يتلاشى.
لكنَّ الحياةَ بكلِّ ما فيها من قسوةٍ وعنفوان تبقى مدرسةً صلبةً لا تُسلمُ حكمتَها إلا لمنْ يملكُ الجرأةَ ليواجهَ مرآةَ ألمه، فأقسى الدروس هي تلك التي تُكتب بدماء القلب وتنتهي بصمت الوداع.